ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ}؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم عذاب الله من الأنصار والأعوان؟! قال ابن عباس: أي من ينصركم مني إِن أردتُ عذابكم؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم، وضلال مبين، حيث ظنوا الأوهام حقائق، فاعتزوا بالأوثان والأصنام {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه؟ والخطاب في الآيتين للكفار على وجه التوبيخ والتهديد، وإِقامة الحجة عليهم {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي بل تمادوا في الطغيان، وأصرّوا على العصيان، ونفروا عن الحق والإِيمان .. ثم ضرب تعال مثلاً للكافر والمؤمن فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي هل من يمشي منكساً رأسه، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً، مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة، يرى طريقه ولا يتعثر في خطواته، لأنه يسير على طريق بيّن واضح؟ قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر كالأعمى الماشي على غير هدى وبصيرة، لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه، والمؤمن كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من الخبط والعثار، هذا مثلهما في الدنيا، وكذلك يكون حالهما في الآخرة، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم، قال قتادة: الكافر أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة، وقال ابن عباس: هو مثلٌ لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة، ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي قل لهم يا محمد: الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم، وأنعم عليكم بهذه النعم "السمع والبصر والعقل" وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى، قال الطبري: أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وكثَّركم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبرونا به من مجيء الساعة والحشر، وهذا استهزاء منهم {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعلمه غيره {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب الله امتثالاً لأمره .. ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم، وعاينوا أهوال القيامة {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظهرت على وجوههم آثار الاستياء، فعلتها الكآبة والغم والحزن، وغشيها الذل والانكسار، قال أبو حيّان: أي ساءت رؤية العذاب وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، كمن يساق الى القتل {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي وقالت لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً: هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً وتكذيباً.